فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخِلَافِ هُوَ الَّذِي ذَلَّتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَ عِزِّهَا، وَهَوَتْ بَعْدَ رِفْعَتِهَا وَضَعُفَتْ بَعْدَ قُوَّتِهَا، هُوَ الِافْتِرَاقُ فِي الدِّينِ وَذَهَابُ أَهْلِهِ مَذَاهِبَ تَجْعَلُهُمْ شِيَعًا تَتَحَكَّمُ فِيهِمُ الْأَهْوَاءُ كَمَا حَصَلَ مِنَ الْفِرَقِ الإسلاميَّةِ، لَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ إِلَّا وَيُبَادِرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِالتَّأْلِيفِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَضْلِيلِهِ وَتَفْنِيدِ مَذْهَبِهِ، وَيُقَابِلُهُ الْآخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، لَا يُحَاوِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُحَادَثَةَ الْآخَرِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى دَلَائِلِهِ وَوَزْنَهَا بِمِيزَانِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ، فَالْوَاجِبُ أَوَّلًا: مُحَاوَلَةُ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ فِي الْبَحْثِ وَالْمُذَاكَرَةِ- أَيْ وَلَوْ كِتَابَةً- وَثَانِيًا: أَلَّا يَكُونَ الْخِلَافُ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ. قَالَ: فَمَا دَامَ الْمُسْلِمُ لَا يُخِلُّ بِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ وَلَا بِاحْتِرَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ عَلَى إِسْلَامِهِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَحَكَّمَ الْهَوَى فَلَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَدْ بَاءَ بِهَا مَنْ قَالَهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُعَامَلَةِ، لَا يَجُوزُ أن يكون مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَرْجِعُونَ فِي النِّزَاعِ إِلَى حُكْمِ اللهِ وَأَهْلِ الذِّكْرِ مِنْهُمْ؛ يَعْنِي أُولِي الأمر، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ. فَإِذَا امْتَثَلْنَا أَمْرَ اللهِ وَنَهْيَهُ فَاتَّقَيْنَا الْخِلَافَ الَّذِي لَنَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ، وَحَكَّمْنَا كِتَابَ اللهِ وَمَنْ أَمَرَ اللهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ فِيمَا نَتَنَازَعُ فِيهِ أَمِنَّا مِنْ غَائِلَةِ الْخِلَافِ، وَكُنَّا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
وَيَدْخُلُ فِي كَلِمَةِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهَا كُلِّهَا إِلَى هَدْيِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ وَرَأْيِ أُولِي الأمر، وَقَدْ وَسَّعْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَارْجِعْ إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [2: 253] الْآيَةَ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}.
إن الله قد أعطى المؤمنين المناعة أولا بألا يسمعوا كلام أعداء الدين. وحين نسمع كلمة {اتقوا} فلنفهم أن هناك أشياء تسبب لك التعب والأذى، فعليك أن تجعل بينك وبينها وقاية، ولذلك قال الحق: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].
إنه الحق يطلب من الإنسان أن يجعل بينه وبين النار وقاية وحجابا يقيه منها. والحق سبحانه وتعالى حين يقول على سبيل المثال: {وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4].
إي اجعل بينك وبين الله حجابا يقيك من غضبه. وقد يقول قائل: كيف يكون ذلك وأنا كمؤمن أريد أن إعيش في معية الله؟
نقول: أنك تجعل الوقاية لنفسك من صفات جلال الله، وأنت تستظل بصفات الجمال، فالمؤمن الحق هو من يجعل لنفسه وقاية من صفات جلال الله، وهي القهر والجبروت وغيرها، وكذلك النار إنّها من جنود صفات الجلال. فحين يقول الحق: {اتَّقُواْ النَّارَ} أو {اتَّقُواْ الله} فالمعنى واحد. وعندما يسمع إنسان قول الحق سبحانه: {اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ} ماذا تعني {حق تقاته}؟ إن كلمة {حق}- كما نعرف- تعني الشيء الثابت الذي لا يزول ولا يتزحزح، أي لا ينتهي ولا يتذبذب، هذا هو الحق.
إذن ما حق التقي؟ هو أن يكون إيمانك أيها المؤمن إيمانا راسخا لا يغادرك ولا تتذبذب معه، واتقاء الله حق تقاته هو اتباع منهجه، فيطاع الله باتباع المنهج فلا يعصي، ويُذكر فلا ينسى، ويُشكر ولا يُكفر. وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج بافعل ولا تفعل ويذكر ولا ينسى؛ لأن العبد قد يطيع الله، وينفذ منهج الله، ولكن النعم التي خلقها الله قد تشغل العبد عن الله، والمنهج يدعوك أن تتذكر في كل نعمة من أنعم بها، وإياك أن تنسيك النعمة المنعم.
ويشكر العبد الله ولا يكفر بالنعم التي وهبها له الله. وما دمت أيها العبد تستقبل كل نعمة وتردها إلى الله وتقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله ولا تكفر بالنعم أي أنك تؤدي حق النعمة، وكل نعمة يؤدي العبد حقها تعني أنها نعمة شكر العبد ربه عليها، ولم يكفر بها.
وقيل في معنى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي أنه لا تأخذك في الله لومة لائم، أو أن تقول الحق ولو على نفسك. هذا ما يقال عنه حق التقى، أي التقى الحق الذي يعتبر تقى بحق وصدق. وقال العلماء: إن هذه الآية عندما نزلت وسمعها الصحابة، استضعف الصحابة نفوسهم أمام مطلوبها، فقال بعضهم: من يقدر على حق التقى؟ ويقال: إن الله أنزل بعد ذلك: {فَاتَّقُواْ الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
فهل معنى هذا أن الله كلف الناس أولا ما لا يستطيعون، ثم قال من بعد ذلك: {فَاتَّقُواْ الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}؟ لا، أنه الحق سبحانه لا يكلف إلا بما في الوسع، والناس قد تخطئ الفهم لقوله تعالى: {فَاتَّقُواْ الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} فيقول العبد: أنا غير مستطيع أن أقوم بذلك التكليف، ويظن هذا العبد أن التكليف يسقط عنه. لا، إن هذا فهم خاطئ؛ إن قوله الحق: {فَاتَّقُواْ الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} أي أنك تتقي الله بما كان في استطاعتك من الوسع، فما باستطاعتك أن تقوم به عليك أن تقوم به. فلا يهرب أحد إلى المعنى المناقض ويقول: أنا غير مستطيع؛ لأن الله يعلم حدود استطاعتك.
وساعة تكون غير مستطيع فهو سبحانه الذي يخفف.. أنك لا تخفف أنت على نفسك أيها العبد، فالخالق الحق هو الذي يعلم إذا كان الأمر خارجا عن استطاعتك أو لا، وساعة يكون الأمر خارجًا عن استطاعتك فالله هو الذي يخفف عنك. ولذلك فعلى الإنسان ألا يستخدم القول الحق: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
في غير موضعه؛ لأن الإنسأن لا يستطيع أن يقدر الوسع، ثم يبني التكليف على الوسع. بل عليك أن تفهم أيها الإنسان أن الله هو الذي خلق النفس، وهو الذي أنزل التكليف لوسع النفس، وما دام الخالق للنفس هو الله فهو العليم بوسع النفس حينما قرر لها المنهج. أنه سبحانه الذي كلف، وهو العليم بأن النفس قد وسعت، ولذلك فهو لا يكلف نفسا إلا وسعها. فإن كان سبحانه قد كلف فأعلم أيها العبد أنه سبحانه قد كلف بما في وسعك، وعندما يحدث للإنسان ما يشق عليه أو يمنعه من أداء ما كلف به تامًّا فهو سبحانه يضع لنا التخفيف وينزل لنا الرخص. مثال ذلك: المريض أو الذي على سفر، له رخصة الإفطار في رمضان، والمسافر له أن يقصر الصلاة.
إذن فالله سبحانه هو الذي علم حدود وسع النفس التي خلقها، ولذلك لا تقدر وسعك أولا ثم تقدر التكليف عليه، ولكن قدّر التكليف أولا، وقل: ما دام الحق قد كلف فذلك في الوسع. وفي تذييل الآية الكريمة بقوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} نجد أنفسنا أمام نهي عن فعل وهو: عدم الموت إلا والإنسان مسلم.
كيف ذلك؟ أيقول لك أحد: لا تمت؟ إن ذلك الأمر ليس لك فيه اختيار؛ لأنه أمر نازل عليك. فإذا قيل لك: لا تمت، فإنك تتعجب؛ لأن أحدا لا يملك ذلك، ولكن إذا قيل لك: لا تمت إلا وأنت مسلم، فأنت تفكر، وتصل بالتفكير إلى أن الفعل المنهي عنه: لا تمت ليس في قدرة الإنسان؛ ولكن الحال الذي يقع عليه الفعل وهو: إلا وأنت مسلم، في قدرة الإنسان؛ لذلك تقول لنفسك: إن الموت يأتي بغير عمل مني، ولكن كلمة: إلا وأنت مسلم، فهي باستطاعتي، لأن الإسلام يكون باختياري.
صحيح أنك لا تعرف متى يقع عليك الموت؟ ولذلك تحتاط والاحتياط يكون بأن تظل مسلما حتى يصادفك الموت في أي لحظة وأنت مسلم.
إذن.. فقول الله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} هو نهي عن الفعل الأول وهو ليس باختيارنا. والحال الذي لنا فيه اختيار هو {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} فكيف نوفق بين الأمرين؟ إن الموت لا اختيار لأحد منا متى يقع عليه، ولذلك نأتي إلى الأمر الذي لنا فيه اختيار، وهو أن نحرص على أن نكون مسلمين، ويظل كل منا متمسكا بأهداب الإسلام، فإن صادف الموت في أي لحظة يكون مسلما وكأن الحق سبحانه يقول لنا: تمسكوا بإسلامكم؛ لأنكم لا تدرون متى يقع عليكم الموت.
وإخفاء الموت عن الإنسان ليس إبهاما كما يظن البعض، لا؛ أنه منتهي البيان الواسع؛ لأن إخفاء الموت، وميعاده عن الإنسان زمنا وحالا، وسنا وسببا، كل ذلك يوضح الموت أوضح بيان. لماذا؟ لأن الله حين استأثر بعلم الموت فالإنسان منا يترقب الموت في أي لحظة وما دام الإنسان مترقبا للموت في أي لحظة فهذا بيان واسع بل هو أوسع بيان. ويقول الحق بعد ذلك: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
جاء هذا القول الكريم لينبه كل المؤمنين، من خلال التنبيه للأوس والخزرج، وكأنه يقول: اعلموا أن التفاخر قبل الإسلام كان وبأشياء ليست من الإسلام في شيء. لكن حين يجيء الإسلام فالتفاخر يكون بالإسلام وحده فإذا ما تغاضى إنسان بما قبل الإسلام بقوله: منا كذا.. ومنا كذا. فهنا يأتي الردّ: لا؛ إن ذلك قبل الإسلام.
وقد حدث أن قال الأوس من بعد الإسلام: منا خزيمة فقال واحد من الخزرج: ومنا أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت فقال واحد من الأوس: منا حنظلة ابن الراهب وحنظلة هذا هو غسيل الملائكة، وخزيمة بن ثابت صحابي جليل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين؛ لأن خزيمة صاحب إيمان نوراني. ونورانية اليقين هدته إلى الحكم الصواب؛ فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أعرابي وذهب ليحضر له الثمن، ولكن الأعرابي أنكر البيع لأن بعض الناس زاده في ثمن الفرس دون علم أن الرسول قد اشتراه فنادى الأعرابي الرسول وقال له إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته.
فقال النبي للرجل: «ألست قد ابتعته منك». فقال الرجل هات شاهدا يشهد بذلك. لقد انتهز الرجل فرصة أن النبي ابتاع منه دون وجود أحد في هذا الوقت، وكان سيدنا خزيمة جالسا لحظة مطالبته للنبي بشاهد. فقال سيدنا خزيمة: أنا أشهد يا رسول الله أنك قد بايعته.
ولأن الرجل كاذب، قال لنفسه: لعل خزيمة رآنا وأنا أبيع الفرس للنبّي فسكت الرجل وانصرف، وبعد أن انصرف الرجل نادى الرسول خزيمة. وقال له: «يا خزيمة بم تشهد ولم تكن معنا؟» فقال: أنا أصدقك في خبر السماء ولا أصدقك بما تقول؟ أعلم أنك لا تقول إلا حقًا قد آمناك على أفضل من ذلك، على ديننا. فعلم الرسول أن لخزيمة نورانية التصديق وحسن الاستنباط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد له خزيمة فحسبه».
فالأمر الذي يحتاج شاهدين تكفي فيه شهادة خزيمة، وبذلك أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الوسام لخزيمة وجعل شهادته شهادة رجلين، ولنر كيف جمع الله بين الأوس والخزرج في جمع القرآن، قال زيد بن ثابت: فآليت على نفسي ألاّ أكتب آية إلاّ إذا وجدتها مكتوبة وشهد عليها اثنان، إلاّ آخر التوبة فوجدتها مكتوبة ولم يشهد عليها إلاّ خزيمة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في خزيمة: «من شهد له خزيمة فحسبه» ولنا أن نعرف أن زيد بن ثابت من الخزرج وأن خزيمة من الأوس. لقد جمعهما الله في جمع القرآن، فنفع الأوسي الخزرجي، وذلك ليدلنا الحق سبحانه دلالة جديدة، وهي أن التفاخر قبل الإسلام كان بغير الإسلام، لكن ساعة يجيء الإسلام فأي واحد من أي جنس ما دام قد أحسن الإسلام، فله أن يفخر به، فإياك يا أوسيّ أن تقول: منا خزيمة؛ فالخزرجي له الفخر بخزيمة أيضا، وليس للخزرجي أن يقول: منا زيد بن ثابت فللأوسي أيضا أن يفخر به، لأن كُلًا منهما قد جمعه الله بالآخر في القرآن، والإسلام، وهكذا يكون الاعتصام بحبل الله.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} إنّ الحرب ظلت مستعرة بين الأوس والخزرج مائة وعشرين عاما مع أن أصل القبيلتين واحد، هما أخوأن لاب وأم وعندما جاء الإسلام ألف الله بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا.
وهذا يدلنا على أن كل نزغةِ جارحةٍ من الجوارح لابد أن يكون وراءها هبة قلب وثورته وهياجه، فاليد لا تصفع أحدا من فراغ، ولكن الصفعة توجد في القلب أولا {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، إن الحق سبحانه يقول: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} والشفا هي الحافة. ومرة يقال: شفا ومرة يقال: شفة. لقد كانوا على حافة النار، ومن كان على الحافة فهو يوشك أن يقع، فكأن الله يقول: لقد تداركتم بالإسلام، ولولا الإسلام لهويتم في النار.
ويقول سبحانه: {كَذالِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وهكذا نرى نعمة الإسلام في الدنيا، فقدرة الإيمان على إنقاذ الإنسان من النار لا تحتاج إلى انتظار بل يستطيع المؤمن أن يراها في الدنيا. ولقد كان العرب قبل الإسلام مؤرقين بالاختلافات، وموزعين بالعصبية، وكل يوم في شقاق. ولما جاء الإسلام صاروا إخوانا، وهذه نعمة عاجلة في الدنيا، والدنيا كما نعرف ليست دار جزاء، فما بالك بما يكون في الآخرة وهي دار الجزاء والبقاء.
وقوله الحق: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} المقصود به أن تظلوا على هدايتكم. لقد خاطبهم الحق: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} وساعة يطلب التشريع منك ما أنت عليه، فاعلم أن التشريع يريد منك استدامته، فعندما يقول الحق {يا أيها الذين آمنوا} أي مع الإيمان الذي معكم قبل كلامي، جددوا إيمانا بعد كلامي ليستمر لكم الإيمان دائما. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}.
أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في الناسخ والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {اتقوا الله حق تقاته} قال: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{اتقوا الله حق تقاته} أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى».
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة {اتقوا الله حق تقاته} قال: أن يطاع فلا يعصى، وان يذكر فلا ينسى. قال عكرمة: قال ابن عباس: فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله بعد ذلك {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {اتقوا الله حق تقاته} أن يطاع فلا يعصى. فلم يستطيعوا قال الله: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الآية الأولى.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود {اتقوا الله حق تقاته} قال: نسختها {فاتقوا الله ما استطعتم}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {اتقوا الله حق تقاته} قال: لم تنسخ ولكن {حق تقاته} أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت {اتقوا الله حق تقاته} ثم نزل بعدها {فاتقوا الله ما استطعتم} نسخت هذه الآية التي في آل عمران.